الوعي و اللاوعي
الوعي و اللاوعي
ها إن الناس جميعا أو يكادون، يتفقون على إكساب كل ما هو نفسي سمة عامة تعبر عن جوهره ذاته، وهذا أمر غريب. هذه السمة الفريدة، التي يتعذر وصفها، بل هي لا تحتاج إلى وصف، هي الوعي. فكل ما هو واع نفسي، وعلى عكس ذلك فكل ما هو نفسي واع. وهل ينكر أمر على هذا القدر من البداهة ؟ ومع ذلك فلنقر بأن هذا الأسلوب في النظر قلما وصّح لنا ماهية الحياة النفسية إذ أن التقصي العلمي يقف ههنا حسيرا، ولا يجد للخروج من هذا المأزق سبيلا. (...) فكيف ننكر أن الظواهر النفسية خاضعة خضوعا كبيرا للظواهر الجسديُة، وأنها على عكس ذلك تؤثر فيها تأثيرا قويا ؟ إن أرتج الأمر على الفكر البشري، فقد أرتج عليه يقينا في هذه المسألة، وقد وجد الفلاسفة أنفسهم مضطرين لإيجاد مخرج، إلى الإقرار على الأقل بوجود مسارات عضوية موازية للمسارات النفسيّة ومرتبطة بها ارتباطا يعسر تفسيره (...) وقد وجد التحليل النفسي مخرجا من هذه المصاعب إذ رفض رفضا قاطعا إن يدمج النفسي في الواعي . كلا، فليس الوعي ماهية الحياة النفسية،
(...) ولكن يقي علينا أيضا أن ندحض اعتراضا. فرغم ما ذكرناه من أمور يزعم فريق من الناس أنه لا بجدر بنا أن نعدل عن الرأي القائل بالتماهي بين النفسي والواعي، إذ أن المسارات النفسيّة الني تسمى لا واعية قد لا تكون سوى مسارات عضوية موازية للمسارات النفسية. ومن ثمّ فكأنّ القضية التي نروم حلها لم تعد إلا مسألة تعريف لا طائل تحتها (...) فهل من باب الصدفة المحض أننا لم نصل إلى إعطاء الحياة النفسية نظرية جامعة متماسكة إلا بعد أن غيّرنا تعريفها ؟
وفوق هذا علينا أن نتجنّب الاعتقاد بأن التحليل النفسي هو الذي جدد نظرية الحياة النفسية هذه .(...) فقد كان مفهوم اللاشعور يطرق منذ أمد طويل باب علم النفس، وكانت الفلسفة كما كان الأدب يغازلانه، ولكن العلم لم يكن يعرف كيف يستخدمه. لقد تبنى التحليل النفسي هذه الفكرة، وأولاها كل عنايته وأفعمها بمضمون جديد. ولقد عثرت البحوث التحليليّة النفسيّة على خصائص للحياة النفسيّة اللاواعية لم تكن قبل ذلك متوقعة، وكشفت بعض القوانين التي تتحكم فيها. ولسنا نقصد من ذلك أن سمة الوعي قد فقدت من قيمتها في نظرنا. فما زال الوعي النور الوحيد الذي يسطع لنا ويهدينا في ظلمات الحياة النفسية. ولما كانت معرفتنا ذات طبيعة مخصوصة، فان مهمتنا العلمية في مجال علم النفس ستتمثل في ترجمة المسارات اللاواعية إلى مسارات واعية حتى نسد بذلك ثغرات إدراكنا الواعي.
فرويد
" مختصر في التحليل النفسي "
مهمة الأنا
ثمة قول مأثور ينصح الإنسان بألاّ يخدم سيدين في آن واحد. و الأمر أدهى وأسوأ بكثير بالنسبة إلى الأنا المسكين إذ عليه أن يخدم ثلاثة أسياد قساة، وهو يجهد نفسه للتوفيق بين مطالبهم . وهذه المطالب متناقضة دوما، وكثيرا ما يبدو التوفيق بينها مستحيلا، فلا غرابة إذن أن يخفق الأنا غالبا في مهمته . وهؤلاء المستبدون الثلاثة هم العالم الخارجي والأنا الأعلى و الهو، وحين نعاين ما يبذله الأنا من جهود ليعدل بين الثلاثة معا، أو بالأحرى ليطيعهم جميعا، لا نندم على أننا جسمنا الأنا وأقررنا له بوجود مستقل بذاته ، إنه يشعر بأنه واقع تحت الضغط من نواح ثلاث، وأنه عرضة لثلاثة أخطار متباينة يرد عليها، في حال تضايقه ، بتوليد الحصر. وبما أنه ينشأ أصلا عن تجارب الإدراك ، فهو مدعوّ إلى تمثيل مطالب العالم الخارجي ، غير أنه يحرص مع ذلك على أن يبقى خادما وفيّا للهو، وأن يقيم وإياه على تفاهم ووفاق ، وأن ينزل في نظره منزلة الموضوع ، وأن يجتذب إليه طاقته الليبيدية. وكثيرا ما يرى نفسه مضطرا ، وهو الذي يتولى تأمين الاتصال بين الهو و الواقع ، إلى التستر على الأوامر اللاّشعورية الصادرة عن الهو بتبريرات قبل شعورية وإلى التخفيف من حدة المجابهة بين الهو والواقع ، وإلى سلوك طريق الرّيــّاء
الدبلوماسي و التظاهر باعتبار الواقع ، حتى وإن أبدى الهو تعنتا وجموحا. ومن جهة أخرى، فان الأنا الأعلى القاسي ما يفتأ يراقبه ويرصد حركاته، ويفرض عليه قواعد معينة لسلوكه غير مكترث بالصعاب التي يقيمها في وجهه الهو والعالم الخارجي . وإن اتفق أن عصى الأنا أوامر الأنا الأعلى عاقبه هذا الأخير بما يفرضه عليه من مشاعر أليمة بالدونية والذنب . على هذا النحو يكافح الأنا، الواقع تحت ضغط الهو و الرازح تحت نير اضطهاد الأنا الأعلى والمصدود من قبل الواقع ، يكافح الإنجاز مهمته الاقتصادية و لإعادة الانسجام بين مختلف القوى الفاعلة فيه والمؤثرات الواقعة عليه . ومن هنا نفهم لماذا يجد الواحد منا نفسه مكرها في كثير من الأحيان على أن يهتف بينه وبين نفسه:" آه، ليست الحياة بسهلة".
" محاضرات جديدة في التحليل النفسي "
منهج التحليل النفسي
بدل الإلحاح على المريض بأن يذكر شيئا عن موضوع بعينه ، أصبحت أحثه على الاستسلام ل" تداعياته الحرة "، أي ذكر كل ما يخطر بذهنه حين يمتنع عن متابعة أي تمثل واع وكان لا بد مع ذلك أن يلتزم المريض بذكر كل ما كان يمده به إدراكه الباطني ، وبعدم الانسياق وراء الاعتراضات النقدية التي تريده على استبعاد بعض الخواطر بحجة أنها ليست هامة بالقدر الكافي أو أنه لا حاجة إلى مثولها أو كذلك بحجة أنه لا معنى لها إطلاقا، ولا حاجة إلى الإلحاح في التذكير صراحة بمطلب الصدق ، إذ هو شرط العلاج التحليلي .
قد يبدو عجيبا أن تكون طريقة التداعي الحر هذه ، المقترنة بتطبيق القاعدة الأساسية في التحليل النفسي ، قادرة على أن تحقق ما ينّتظر منها، أي على أن ترجع إلى الوعي القوى المكبوتة والباقية في حالة الكبت بفعل المقاومات . ومع ذلك ، لا بد من اعتبار أن التداعي الحر ليس في حقيقة الأمر حرا، فالمريض يبقى تحت تأثير الوضع التحليلي ، حتى عندما لا يوجه نشاطه الذهني نحو موضوع معيّن . ويحق لنا أن نفترض أنه ما من شيء يعرض للمريض إلا وله صلة بهذا الوضع ، وتظهر مقاومته ضد عودة المكبوت على نحوين . تظهر أولا في تلك الاعتراضات النقدية التي تتصدى لها القاعدة الأساسية في التحليل النفسي ، ولا يتغلب على هذه العوائق بفضل مراعاة هذه القاعدة إلا وتجد المقاومة عندئذ تعبيرة أخرى، فتمنع المكبوت من أن يخطر أبدا ببال المحلل ، ولكن يحل مكانه ، على سبيل التلميح ، شيء له صلة بالمكبوت ، وكلما عظمت المقاومة، بعدت الشقة بين الفكرة البديلة القابلة للتبليغ و بين ما نبحث عنه بالذات.
فرويد
" حياتي و التحليل النفسي "
المحتوى الظّاهر للحلم ومحتواه الكامن
إن الأحلام كلها غير غريبة عن الحالم ، ولا هي مفهومة لديه ولا واضحة. فلو انكببتم على النظر في أحلام الأطفال الصغار - منذ أن يبلغوا من العمر عاما ونصف العام - لوجدتموها بسيطة جدا، سهلة التفسير، فالطفل الصغير يحلم دائما بتحقيق رغبات أنشأها في نفسه اليوم السابق دون إشباعها. ولا نحتاج إلى كبير تخمين لنتوصل إلى هذا الحلّ البسيط ، بل يكفي أن نعلم ما مر بالطفل في اليوم السابق .
[ وقد يعترض بعضهم فيقول :] إن أحلام الكهول لا تفهم في الغالب ولا تشبه إلا قليلا تحقيق الرغبة. فنجيب : ذلك أنها تغيرت ملامحها وتنكرت . والفرق في أن منشأها النفسي مختلف شديد الاختلاف عن الصورة التي تبدو عليها. ولهذا وجب أن نميز بين أمرين : الحلم كما يبدو لنا وكما نستحضره في الصباح غامضا إلى حد أننا نجد غالبا بعض العناء في روايته وترجمته إلى كلمات . وهذا ما سنسميه المحتوى الظاهر للحلم ، هذا من جهة، ثم إن لنا مجموعة التصورات الكامنة للحلم ، التي نفترض أنها تتحكم في الحلم في قرار اللاشعور نفسه ، من جهة أخرى. وعملية التشويه هذه هي نفسها التي تتحكم في نشأة الأعراض الهستيريّة. فتكون الأحلام ينتج إذن عن نفس التقابل الذي بقع بين القوى النفسية عند تكون الأعراض .
" المحتوى الظاهر " للحلم هو بديل محرّف من التصوّرات الكامنة للحلم ، وهذا التحريف هو من عمل " الأنا " المدافع عن نفسه . ويتولد التحريف عن عمليات مقاومة تحبر على الرغبات اللاّشعورية تحجيرا مطلقا الدخول إلى حيّز الشعور في حالة اليقظة. لكن هذه القوى - رغم أن النوم يضعفها - ما يزال لها من القدرة ما يجعلها تفرض ، على الأقل على الرغبات ، قناعا يخفيها. وليس الحالم أقدر على فك معنى أحلامه من الهستيري على التعمّق في دلالة أعراضه .
فرويد
"خمسة دروس في التحليل النفسي "
الرجة
إن اللقاء بالتحليل النفسي يرج رجة هائلة من تكون في الفينومينولوجيا والفلسفة الوجودية وفي سياق التجديد في الدراسات الهيغلية وفي البحوث ذات المنحى اللغوي . إذ لا يتعلق الأمر بالمساس بهذا الموضوع أو ذاك من مواضيع التفكير الفلسفي وإعادة النظر فيها، بل إن كل المشروع الفلسفي هو المستهدف في ذلك . فالفيلسوف المعاصر يلتقي بفرويد غير بعيد عن نيتشه ولا عن ماركس ، فيقف ثلاثتهم أمامه أقطاب الظنة وكاشفي الأقنعة. وينشأ مشكل جديد وهو مشكل زيف الوعي ومشكل الوعي باعتباره زيفا. ولا يمكن أن يظل هذا المشكل مشكلا مخصوصا من بين مشاكل أخرى إذ أن ما ينبغي إعادة النظر فيه بوجه عام وجذري إنما هو ما يبدو لنا، نحن معشر فلاسفة الفينومينولوجيا، مجال كل دلالة، وأساسها، بل أصلها، وأعني الوعي .
إنما هذا النفس المشوب بالظّنة إزاء ادعاء الوعي معرفة ذاته منذ البدء هو باب الفيلسوف ، يدخل منه ، لينضم إلى الأطباء النفسيين والمحللين النفسيين . فإذا كان لزاما علينا، آخر الأمر، أن نسلم بتلازم الوعي واللاوعي ، وجب قبل ذلك اجتياز صحراء الإقرار المزدوج : " لا أفهم اللاوعي انطلاقا مما أعرف عن الوعي ، و لآب حتى مما قبل الوعي " . ثم مباشرة : " ما عدت قادرا حتى على فهم الوعي " تلك هي المزية الكبرى لما هو الأبعد في مناهضة الفلسفة وما هو الأبعد في مناهضة الفينومينولوجيا لدى فرويد، وأعني وجهة النظر الموضعية و الاقتصادية مطبقة على مجموع نشاط الجهاز النفسي ، كما يبدو لنا في مقاله الشهير المتعلق بالميتابسيكولوجيا وقد خصصه للحديث عن اللاوعي . و لا يمكن أن نتبين مسائل تغدو فينومينولوجية من نوع : كيف علي أن أعيد التفكير في مفهوم الوعي وأعيد صياغته حتى يغدو اللاوعي الأخر بالنسبة إليه ، وحتى يكون الوعي متسعا للأخر الذي ندعوه هنا اللاوعي ، إلا انطلاقا من هذه الحيرة الفينومينولوجية المقضة.
أما السؤال الثاني فهو : كيف يمكن ، من جهة أخرى، أن ننقد - نقدا بالمعنى الكانطي -أي التفكير في شروط الصلاحية وفي حدود ها أيضا - ما يتعلق " بالنماذج " التي على المحلل النفسي أن بقيمها وجوبا إذا ما رام البرهنة على اللاوعي ؟ وهذا ما يجعل إنشاء إيبستمولوجيا التحليل النفسي مهمة متأكدة إذ ليس بوسعنا الاكتفاء بالتمييز بين المنهج والمذهب ، كما كان عليه الأمر منذ عشرين سنة، فنحن نعلم اليوم أن " النظرية " في العلوم الإنسانية، ليست إضافة عارضة لأنها " جزء من تركيب " الموضوع نفسه ، بل هي " مكونه الأساسي ". فلا ينفصل اللاوعي بما هو واقع عن النموذج الموضعي و النموذج الطاقي و النموذج الاقتصادي ، وهي النماذج التي تحكم النظرية. " فما وراء علم النفس "، إذا ما استعرنا عبارة فرويد نفسه ، هو المذهب ، إن شئنا، غير أنه المذهب بما هو قادر على أن يجعل إنشاء الموضوع ممكنا. فالمذهب هنا هو المنهج .
و السؤال الثالث ، بعد مراجعة مفهوم الوعي التي فرضها علم اللاوعي ، وبعد نقد "نماذج " اللاوعي ، يدور على النظر في إمكانية قيام أنثروبولوجيا فلسفية قادرة على الاضطلاع بجدلية الوعي و اللاوعي . وفي إطار أية رؤية للعالم و للإنسان يمكن تصور هذا الأمر ؟ وما عصى الإنسان حتى يكون مسؤولا عن التفكير تفكيرا سليما وقادرا على الجنون في آن واحد ؟ وحتى يكون مجبرا، بما فيه من إنسانية، على مزيد الوعي وقادرا على أن يندرج في سياق موضعي وفي سياق اقتصادي، من حيث أن " شيئا ما يحركه " فأية نظرة جديدة لهشاشة الإنسان - بل للمفارقة القائمة بين المسؤولية و الهشاشة - يقتضيها فكر ارتضى أن ينزاح عن مركزية الوعي بالتفكير في اللاوعي ؟
بول ريكور
" سجال التأويلات"
إن الأطروحة الفرويدية عن أسبقية الرغبة أساسية من أجل إعادة صياغة الكوجيتو: فقبل أن تتحدد الذات شعوريا وإراديا كانت أصلا محددة في الكائن على المستوى الغرائزي وتعني أسبقية الغريزة هذه بالنسبة للوعي والإرادة أولوية الـ ( أنا موجود) على الـ (الأنا أفكر) وينتج عن ذلك تفسيرا للكوجيتو أقل مثالية وأوثق صلة بالوجود: إن فعل الكوجيتو المحض بوصفه يطرح نفسه بصفة مطلقة هو حقيقة مجردة و خاوية بقدر ما هي دامغة.
وهكذا يجب الاضطلاع بيقينية الكوجيتو و بطابعه الارتيابي غير المحدود معا فالكوجيتو هو في آن واحد اليقين القاطع بأنني موجود و سؤال مفتوح بالنسبة لوجودي.
إن الوظيفة الفلسفية للفرويدية هي إقامة مسافة بين يقينية الكوجيتو المجردة وإعادة اكتشاف حقيقة الذات العينية وفي هذه المسافة ينزلق نقد الكوجيتو المزيف وتفكيك أوثان الأنا التي تقيم حاجزا بين الأنا وبين أنا ذاتي.
بول ريكور
الإنسان وعي بالذات.إنه وعي بذاته وعي بحقيقته وبكرامته الإنسانية.وبهذا فهو يختلف جوهريا عن الحيوان ،الذي لا يتجاوز مستوى "الإحساس" البسيط بذاته.ولكي يحصل الوعي بالذات فإن على الرغبة أن تتعلق بموضوع غير طبيعي، بشيء يتجاوز الواقع المعطى.
إن الرغبة الإنسانية المولدة للإنسان والمكونة لفرد حر وتاريخي وواع بفرديته وحريته وتاريخه تختلف إذن عن الرغبة الحيوانية[المكونة لكائن طبيعي يحيا فحسب ولا يملك سوى الإحساس بحياته] باعتبارها تتعلّق برغبة أخرى وليس بموضوع واقعي و"ايجابي" ومعطى..
وحتى يكون الإنسان حقيقة إنسانية،ولكي يتميز جوهريا وواقعيا عن الحيوان فإنه ينبغي أن تقضي رغبته الإنسانية فعليا على رغبته الحيوانية .بيد أن كل رغبة هي رغبة في قيمة ما.فالقيمة العليا للحيوان هي حياته الحيوانية.وكل رغباته في آخر التحليل هي حصيلة رغبته في البقاء.وبعبارة أخرى، الإنسان لا "يؤكد"إنسانيته إلا إذا خاطر بحياته [الحيوانية] في سبيل رغبته الإنسانية، من خلال هذه المخاطرة وبواسطتها تتأكد أي تنكشف وتتبين ويتم اختبارها وتثبت أدلتها بما هي مختلفة جوهريا عن الحقيقة الحيوانية الطبيعية...
ألكسندر كوجيف: مقدمة لقراءة هبغل.
الأنا
لا أعرف بعد ما أنا إياه ، أنا المتيقن من كوني أوجد... لذلك سأنظر في ما اعتقدت أني إياه فما الذي اعتقدت من قبل أني إياه, لقد اعتقدت دون صعوبة أني إنسان و لكن ما معني إنسان ؟ ... سأعتبر أولا أن لي وجها و يدين و ذراعين وكل هذه الآلة المركبة من العظام واللحم مثلما تظهر ضمن جثة وهي الآلة التي أطلق عليها اسم الجسم. و سأعتبر إضافة إلي ذلك أني أتغذى وأمشي وأحس وأفكر و سأرجع كل هذه الأفعال إلى النفس ولكني لا أتوقف مطلقا عن التفكير في ما يمكن أن تكونه النفس... أما بخصوص الجسم فإني ما كنت مطلقا أشك في طبيعته لأني كنت أعتقد في معرفة طبيعته بتمييز قوي إذا شئت أن أعبر عنها... أمكنني وصفها على النحو التالي: أعني بكلمة جسم كل ما يقبل أن يتحدد ضمن شكل ما وكل ما يقبل أن يتضمن في مقر ما وأن يملأ فضاء على نحو يقصي كل جسم آخر, وما يقبل أن يحس إما لمسا و إما إبصارا و إما سماعا و إما تذوقا و إما رائحة,
رونى ديكارت: التأملات الميتافيزيقية
لقد عودنا التصور الديكارتي على أن ننفصل عن الموضوع. فالموقف التأملي يظهر في الآن نفسه, الفكرة السائدة عن كل من الجسد والنفس, و ذلك بتحديده الجسد على أنه مجموع أجزاء دون عالم داخلي, والنفس على أنها كائن ماثل لدى ذاته المثول كله, دونما بين. إن هذين التحديدين المتلازمين, إذ يرسيان الوضوح داخلنا و خارجنا, يضعاننا أمام شفافية موضوع دون ثنايا, أمام شفافية ذات ليست إلا ما تتصور نفسها عليه.
موريس ميرلوبنتي فينومينولوجيا الإدراك : قاليمار 1945 ص 230 / 231
ليس جسدي موضوعا بين الموضوعات وأشدها قربا. فكيف يقترن بتجربتي كذات ؟ في الواقع التجربتان ليستا منفصلتين : أوجد ذاتيا وأوجد جسديا يمثلان نفس التجربة فأنا لا أفكر من دون أن أوجد , و لا أوجد من دون جسدي , فأنا به أكون معروضا على نفسي والعالم والآخر , و به أنجو من عزلة فكر لا يكون سوى تفكير في الفكر فهو برفضه أن يتركني شفافا بصورة تامة مع نفسي , يرمي بي بلا انقطاع في إشكالية العالم و صراعات الإنسان , و يقذف بي إلى المكان بواسطة إلحاح الحواس و يعلمني الديمومة بواسطة شيخوخته , و يواجهني بالخلود بواسطة موته , فهو يثقل بعبوديته و لكنه في نفس الآن جذر كل وعي و كل حياة روحية , فهو الوسيط الدائم لحياة الفكر .
إمانويل مونييه: الشخصانية ص 19 /20
لا أعرف بعد ما أنا إياه ، أنا المتيقن من كوني أوجد... لذلك سأنظر في ما اعتقدت أني إياه فما الذي اعتقدت من قبل أني إياه, لقد اعتقدت دون صعوبة أني إنسان و لكن ما معني إنسان ؟ ... سأعتبر أولا أن لي وجها و يدين و ذراعين وكل هذه الآلة المركبة من العظام واللحم مثلما تظهر ضمن جثة وهي الآلة التي أطلق عليها اسم الجسم. و سأعتبر إضافة إلي ذلك أني أتغذى وأمشي وأحس وأفكر و سأرجع كل هذه الأفعال إلى النفس ولكني لا أتوقف مطلقا عن التفكير في ما يمكن أن تكونه النفس... أما بخصوص الجسم فإني ما كنت مطلقا أشك في طبيعته لأني كنت أعتقد في معرفة طبيعته بتمييز قوي إذا شئت أن أعبر عنها...
رونى ديكارت: التأملات الميتافيزيقية
ليس الفكر الذي يصبح واعيا إلا جزءا طفيفا : لنقل إنه الجزء الأكثر سطحية و رداءة ذلك أن هذا الفكر الواعي فقط ينشأ في شكل كلام أي في شكل علامات تواصل... إن نمو الوعي واللغة متوازيان. و لنضف إلى هذا أن ليست اللغة فقط هي التي تمد جسرا من إنسان إلى آخر ولكن كذلك النظرة و الإيماءة و الحركة.
إن الإنسان الذي اخترع العلامات هو ذاته الذي يحصل له شيئا فشيئا وعي حاد بذاته و إنه لم يتعلم فعل ذلك إلا من جهة ما هو كائن اجتماعي...يبدو لي في ما أرى أن الوعي لا ينتسب في الواقع إلى الوجود الفردي في الإنسان ولكنه ينتسب بالأحرى إلي ما يصنع منه طبيعة اجتماعية و قطيعية: وتبعا لذلك إن الوعي لم ينم بدقة إلا بالنظر إلى النفع الذي يقدمه للمجتمع وإن كلامنا بالضرورة وبصرف النظر عن صدق إرادته في أن يفهم نفسه على نحو فردي قدر الإمكان وأن يعرف ذاته رغم ذلك لم يفعل شيئا آخر عدا حمل ما ليس فرديا إلى وعيه...
تبعا لذلك فإن كل وعي يرتد إلي عملية تعميم و تسطيح و مغالطة أي عملية هدامة بالأساس.
نيـــــــــتشه: العلم المرح
إن هذه الآراء ( الفلسفية المتنازعة ) جميعها تشترك في شيء واحد: إنها تفهم الوجود على أنه شيء ما يواجهني بوصفه موضوعا يقف بمعزل عني أثناء تفكيري فيه هذه الظاهرة الأساسية في وعينا هي بالنسبة إلينا واضحة بذاتها لدرجة أننا لا نكاد نرتاب في اللغز الذي تمثله لأننا لا نحاول أن نتفحصه. إن الشيء الذي نفكر فيه و نتحدث عنه دائما شيء مختلف عنا إنه الموضوع الذي نتجه إليه باعتبارنا ذاتا.
فإذا جعلنا أنفسنا داخل موضوع تفكيرنا فإننا نصبح نحن أنفسنا "الآخر", و مع ذلك نظل في الوقت نفسه "أنا " مفكرة تفكر في نفسها, و لكنها لا تستطيع أن تفكر كما ينبغي باعتبارها موضوعا لأنها هي التي تحدد موضوعية الموضوعات جميعا, و نحن نطلق على هذا الشرط الأساسي بالقسمة الثنائية إلي ذات وموضوع, وما دمنا متيقظين واعين فإننا نواجهها دائما.
كارل يسبرس: سبيل إلي الحكمة
البحث عن المصدر لا يؤسس: إنه يربك ما ندركه ثابتا و يجزئ ما نراه حدا أية قناعة قد تصمد بعد هذا... ؟ نستطيع أن نقول أن المصدر مشدود إلي الجسد و مندرج في منظومته العصبية و في مزاجه و جهازه الهضمي... و ضمن الجسم و خوره أمور موروثة عن أسلاف اقترفوا أخطاء فعندما يحملون النتائج محمل الأسباب و يعتقدون بعالم آخر غير هذا العالم أو يصطنعون قيمة الخلود, أجساد أبنائهم هي التي تدفع الثمن.
مـيشال فــوكــو: جينيالوجيا المعرفة
مهما يكن فبصفتنا باحثين عن المعرفة, يحسن بنا أن لا نكون جاحدين تجاه مثل هذه المحاولات التي تقلب آفاق النظر عاليها سافلها, فضلا عن قلبها للتقديرات الشائعة التي طالما جعلت الفكر يغتاظ من نفسه, دون فائدة تذكر و بصورة مستنكرة: لكن رؤية الأمور بصورة مغايرة إرادة المرء في أن يرى الأمور على نحو آخر ليست علما بسيطا ساذجا, أو إعدادا ناقصا يهيأ الذهن لـ" موضوعيته " العتيدة ـ على أن تفهم هذه الموضوعية لا بمعنى " التأمل المجرد " ( فهذا لا معنى له إنه سخافة) بل بما هي ملكة تمكن الذهن من إبقاء ما له و ما عليه ضمن نطاق صلاحياته وتجعله يتصرف عند الحاجة على نحو يمكنه من استخدام هذا التنوع خدمة للمعرفة بما في ذلك آفاق النظر والتأويلات التي تشوبها الميول والأهواء.
فلنلتزم من الآن فصاعدا جانب اليقظة والحذر, حضرات الفلاسفة, حيال تخريف بعض المفاهيم القديمة الخطيرة, هذا التخريف الذي ابتدع " ذاتا عارفة، ذاتا محضا، لا إرادة لها، ولا ألم، ولا تخضع لزمان " ولنحترس من أن تمسنا مجسات بعض المقولات المتناقضة, من نوع " العقل المحض " و " الروحانية المطلقة " و " المعرفة بذاتها ": فهنا يطالب البعض منا دائما أن نفكر بعين لا يمكن تخيلها على الإطلاق بعين ينبغي بأي ثمن أن لا يكون لنظرتها أي اتجاه بعين تكون وظائفها العملية والتفسيرية مقيدة أو غائبة والحال أنه ليس ثمة ما يوفر لفعل النظر موضوعه إلا هي. يطلب منا البعض أن تكون العين شيئا أخرق سخيفا بيد أنه ليس ثمة وجود إلا لرؤية من زاوية معينة لمعرفة من منظور معين و ذلك هو كمال الموضوعية.
نيتشه : جينيالوجيا الأخلاق
المقالة الثالثة الفقرة 12
هناك انطباع سائد أنه بمجرد أن قام الإنسان كتشكيل وضعي في حيز المعرفة, كان لابد وأن يزول امتياز الفكر الذي يفكر في ذاته, و كان أن تمكن, ثمة, فكر موضوعي من أن يغطي الإنسان بأكمله وأن يكشف فيه ما لم يكن ليصل إليه فكره أو حتى وعيه, أوليات غامضة, مساحات مظلمة... أطلق عليها مباشرة أو مواربة اسم اللاوعي. أو ليس اللاوعي ما يقع حتما تحت الفكر العلمي الذي يحمله الإنسان في ذاته عندما يكف عن تذكر ذاته ؟
في الواقع لم يكن الوعي, وبنوع عام كل أشكال اللامفكر المكافأة المعطاة لمعرفة وضعية للإنسان.
ميشال فوكو: الكلمات و الأشياء
***
إن اللوغوس الوحيد الذي يسبق وجوده أي شيء آخر هو العالم نفسه و الفلسفة التي تخرجه إلى الوجود الظاهر لا بدأ بأن تكون ممكنة فهي فعلية أو واقعية كالعالم الذي هي جزء منه و ما من افتراض تفسيري يمكن أن يكون أوضح من ذات العقل الذي به تأخذ من جديد هذا العالم غير المكتمل لكي تحاول إضفاء الطابع الكلي عليه والتفكير فيه... و ليس العالم العقلي مشكلة فلنقل إذا شئنا أنهما يتسمان بالسر بيد أن هذا السر يعرفهما و لا سبيل إلى تشتيتهما بواسطة حل ما لأنهما خارج الحلول جميعا و بهذا المعنى يمكن أن تكون قصة مروية دالة على العالم بعمق لا يقل عن العمق الذي يتصف به بحث في الفلسفة حينئذ نمسك مصيرنا بأيدينا و نصبح مسؤولين عن تاريخنا بتأملنا و كذلك بالقرار الذي نلزم به حياتنا و في الحالتين يتعلق الأمر بفعل عنيف يختبر صدقه بالممارسة.
موريس ميرلوبنتي: تقريض الفلسفة
***
أجمل أو أثمن موضوع في المنظور الشامل للاستهلاك، الموضوع المفجر والأكثر امتلاء بالدلالة هو الجسم... هناك دعاية مستمرة تذكرنا بأنه ليس لنا إلا جسم واحد وأنه يتعين المحافظة عليه و إنقاذه, خلال عهود بذل جهد كبير في إقناع الناس بأنه ليس لديهم جسم أما اليوم فتبذل جهود أخرى لإقناعهم بأهمية جسمهم. هناك شيء غريب في ذلك أليس الجسم هو نفسه ؟ يبدو الأمر ليس كذلك: فمكانة الجسم واقعة تنتمي إلى الثقافة و الحال أنه في أية ثقافة من الثقافات نرى أن نمط العلاقة مع الجسم يعكس نمط تنظيم العلاقة مع الأشياء و مع العلاقات الاجتماعية ذاتها ففي المجتمع الرأسمالي تسري المكانة العامة للملكية الخاصة على الجسم كذلك.
جان بودريار: مجتمع الاستهلاك
***
إن الرائي إذ يغوص في المرئي بواسطة جسده الذي هو نفسه مرئي, لا يستولي على ما يرى: إنه يقربه فقط بواسطة النظرة و يطل على العالم, الذي يكون الرائي جزءا منه و من ناحيته ليس عالما في ذاته أو مادة. و حركتي ليست قرارا من الروح أو فعلا مطلقا يصدر أمره من أعماق العزلة الذاتية, بتغيير ما للموضع يتم بأعجوبة في الامتداد. إنها النتيجة الطبيعية للرؤية و لنضجها الخاص. فأنا أقول عن شيء إنه متحرك.
ميرلوبنتي: العين و العقل
***
تعترض مفهوم اللاوعي جملة من الصعوبات. تتمثل الأولى في أن نفهم كيف يتمثله علم النفس. واضح أن نسق الغرائز يفلت عن الوعي و يوفر له نتائج دون أسباب, مثلا " أنني خائف " بهذا المعنى الطبيعة الإنسانية لا واعية تماما مثل الغرائز الحيوانية و لنفس الأسباب.
آلان: عناصر فلسفية